وكالة أنباء الحوزة - كتب الشيخ غريب رضا مقالا نشر في موقعه حول التعايش السلمي في تونس كنموذج من الدول التي حققت هذا الأمر، وفيما نص المقال:
بسم الله الرحمن الرحيم
1- لاشكّ بأنّ التعايش السلمي بين أتباع الأديان والمذاهب الإسلامية، ضمن إطار الجوهر الأساسي للأديان السماوية، يكمُنُ في العبودية لله، واجتناب الطاغوت، والقيام بالقسط لتحقيق العدالة الإجتماعية، ويُعتبر قيمة إنسانية ودينية عالية، تفتقدها مجتماعتنا البشرية، وتتوق إلى تحقيقها من باب اصلاح ما فسد، ولقد أكّد عليها القرآن الكريم في مواطن عديدة، أهمّها الآية الكريمة المباركة:
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (آل عمران: 64)
لكن غير خفيّ على اللبيب، الذي يحلّل القضايا السياسية المتعلقة بالجانب الديني، على ضوء الفطرة الدينية السليمة، وكذلك من هو متمكن لأصول وقواعد فهم النصوص الدينية – بعد ملاحظة فقرات هذه الآية- أنّ العيش المشترك في منظور الإسلام، لا ينسجم أبداً مع الإنسياق وراء المشاريع الدينية، التي أعدتها القوى الإستكبارية العالمية، لتمرير هيمنتها على الأمّة ومكتسباتها، من خلال ضرب قوة الرّدع الإيماني المنبثق من صميم الأديان السماوية، الكفيل بصناعة مجتمعات واعية دينية، تقوم بواجب التصدّي لمشاريع الإحتلال والإستعمار وحروب الجيل الرابع والخامس…
2 – المشروع الصهيو أمريكي ومن خلال أدواتهما المعروفة، قام في الآونة الأخيرة بتنفيذ مبادرات متنوعة مركّزة على الجانب الديني، مرة بتقديم الديانة الإبراهيمية، في إطار التطبيع الديني مع الكيان الصهيوني، ومرة من خلال استغلال المفاهيم الإنسانية المتفق عليها، لصناعة هوِيّات دينية بديلة للمقاومة، تنسجم مع مشروعه، أو تأخذ الضوء الأخضر لشرعية نشاطاتها منه، في مقابل الخضوع لهيمنته الشيطانية، أو السكوت أمام جرائمه البشعة ضد الإنسان والأديان.
وهذا الركون إلى الذين ظلموا، هو في الحقيقة عبودية لغير الله في الجانب السياسي، وإتخاذ القوى الجائرة أرباباً من دون الله بمسايرتها في ما رمَتْ إليه، ويعتبر تعدّياً من حدود الله سبحانه، وتجاوزاً صريحاً لمفهوم التعايش السلمي، المؤيد في الشرائع السماوية، ولاسيما الدين الإسلامي الحنيف، إذ الهدف من العيش المشترك، والتعاون بين أتباع الأديان والمذاهب -إضافة إلى الحفاظ على السلم الإجتماعي والقيم الإنسانية المشتركة- صناعة مجتمع واعٍ بكلّ تنوعاته، الدينية والمذهبية والقومية، ليكون صاحب الكلمة والموقف الشجاع، الرافض لمشاريع أعدائه وصاحب مبدأ أساس في مقاومة قوى الشرّ العالمية وليس العكس…
3 – الدعوة إلى حقوق الإنسان، والتأكيد على أساسياتها، ومنها الحرية الدينية أمر ضروري، والقيام بذلك واجب إنساني وديني، لكن هذا المفهوم الإنساني له حدود وإطار شرعي وحقوقي، ولا يجوز توسيعه من أهل الكتاب المعترف بالتعامل معهم شرعاً، إلى الإعتراف بديانات مزيفة، صنعتها يد الإستكبار، لتكون عوناً له من أجل هضم ونهب حقوق وخيرات العباد والبلاد.
كيف لنا أن نتخذ الحرية الدينية ذريعة للإعتراف بالديانة البهائية، التي كانت ولا تزال منذ تأسيسها إلى اليوم، تمثّل الطابور الخامس في الدول الإسلامية، لتنفيذ مخططات بريطانيا ثم أمريكا والكيان الصهيوني الغاصب؟
وكيف لا نعترض ولا نرفض هذه الوثيقة، التي تمّت برعاية مؤسسات مشبوهة، وقد شارك في توقيعها بكلّ الأسف مؤسسة تحمل إسم أهل البيت (عليهم السلام)!! أهل البيت الذين علّموا أتباعهم رفض المداهنة مع الحكومات الجائرة، وعدم المساومة على الحق، مع الذين يظنون أنهم يراعون لهم بذلك ذمّة!
لقد كان أهل بيت النبي أسوة لأتباعهم في الإباء والعزّة والكرامة، فقد كانوا أعوان المستضعفين بقطع النظر عن أفكارهم وانتماءاتهم العرقية، قائمين بالقسط ثوّاراً شهداء، ولم يكونوا يوماً ما جسراً للظلمة والطغاة في مشروعهم الديني.
4 – لقد وجدنا الموالين لأهل البيت عليهم السلام في تونس، على قدر عالٍ من الوعي والبصيرة الدينية السياسية، منسجمين مع المجتمع التونسي، من خلال الخطاب الحضاري المقاوم الذي تبنّوه بعيداً عن الطائفية والصراعات التي تفرّق الأمة الإسلامية، بل انخرطوا في مشروع المقاومة العالمية، ولهم قدم صدق في الدفاع عن القضية الفلسطينية، من خلال المؤسسات والأحزاب التي أسسوها، ولاريب أنّهم يدركون خطورة هذه المرحلة، التي تمرّ بها الأمة ولا يتراجعون عن مسيرتهم الحضارية، ومرجعياتهم المقاومة دينياً وسياسياً، إلى مشاريع خُطّطت لهم لتغيير الخطاب المبدئي، وتحسيس المجتمع التونسي طائفياً وإثارته ضدّهم.
إنّنا مع الدعوة لتحقيق الحريات الدينية للديانات السماوية والمذاهب الإسلامية، ومنها أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام – ولا ندّعي أنّه لا توجد مضايقات دينية لهم – نعتبر ما وجدناه في تونس مقارنة بالدول العربية الأخرى، مساحة كبيرة للمشاركة السياسية، ومنابر لإبداء الرأي والموقف، فلا نعتقد أنّ توقيع وثيقة التعايش السلمي، برعاية مؤسسة أهلية سوف يضمن لهم حقوقهم الدينية، لاسيما مع كلّ الإستفهامات والشبهات التي أحاطت بمثل هذا المشروع، وإنّما تأتي مراعاة الحرية الدينية لهم، من خلال قوة الخطاب وسلامة المشروع، والتمثيل الصحيح لمنهج أهل البيت (عليهم السلام) في المجتمع، في تلبية حاجاته ومتطلباته، ومن ثمّ السعي لسنّ القوانين الملزمة لذلك.
نسأل الله التوفيق للجميع، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
غريب رضا
مدير رابطة الحوار الديني للوحدة